فصل: خطب علي ومواعظه رضي الله عنه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال **


 خطب علي ومواعظه رضي الله عنه

44215- عن علي أنه كتب إلى ابنه الحسن كتابا‏:‏ من الوالد الفان، المقر للزمان، المدبر للعمر، المستسلم فيه للدهر، الذام للدنيا، الساكن مساكن الموتى، الظاعن إليهم عنها غدا - إلى المولود المؤمل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، عرض الأسقام، ورهينة الأيام، ورمية المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، وأسير الموت، وحليف ‏(‏حليف‏:‏ الحليف‏:‏ المتعاهد والمتناصر جمع أحلاف وحلفاء والملازم، يقال‏:‏ فلان حليف الجود وحليف الفصاحة‏.‏ والمعنى‏:‏ حليف الهموم أي لا تفارقه الهموم‏.‏ أ ه 1/192 المعجم الوسيط‏.‏ ب‏)‏ الهموم، وقرين الأحزان، ونصب الآفات، وصريع الشهوات، وخليفة الأموات؛ أما بعد‏!‏ فإن فيما قد تبينت من إدبار الدنيا عني وجنوح الدهر علي وإقبال الآخرة على ما يزعني ‏(‏يزعني‏:‏ وزعه يزعه وزعا، مثل وضعه وضعا، أي‏:‏ كفه، فاتزع هو، أي‏:‏ كف‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لابد للناس من وازع، أي من سلطان يكفهم‏.‏ أ ه صفحة 570 المختار‏.‏ ب‏)‏ عن ذكر ما سواي، والاهتمام بما واري، غير أني حين تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي فصدقني رأيي، وتصرف بي هواي، وصرح إلى محض أمري، فأفضي بي جد لا يرزق به لعب، وصدق لا يشوبه كذب، وجدتك أي بني من بعضي، بل وجدتك من كلي حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما عناني من نفسي، فكتبت إليك كتابي هذا إن أنا بقيت أو فنيت‏.‏

وإني أوصيك يا بني بتقوى الله ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبه، فهو أوثق السبب بينك وبينه، يا بني‏!‏ أحي قلبك بالموعظة، وموته بالزهد، وقوه باليقين، وذلله بذكر الموت، وأكثره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين وذكره ما أصاب من كان قبلك، وسر في ديارهم، واعتبر بآثارهم، وانظر ما فعلوا، وعمن انتقلوا، وأين حلوا، فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة، وحلوا دار الغربة، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم، فأصلح مثواك واحرز آخرتك، ودع القول فيما لا تعرف، والدخول فيما لا تكلف، وأمسك عن السير إذا خفت ضلالة، فإن الكف عند حيرة الضلالة خير من ركوب الأهوال، وأمر بالمعروف تكن من أهله وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجهدك، وخض الغمرات إلى الحق، وتفقه في الدين، وعود نفسك الصبر على المكروه، وألجئ نفسك في الأمور كلها إلى الله، فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز، وأخلص في المسألة لربك، فإن بيده العطاء والحرمان وأكثر الاستخارة‏.‏

وتفهم وصيتي، لا تذهبن عنك صفحا، أي بني‏!‏ إني لما رأيتني قد بلغت سنا ورأيتني ازددت وهنا بادرت بوصيتي إياك خصالا منهن أن تعجل لي أجل قبل أن أفضى إليك ما في نفسي وأنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبة الهوى وفتن الدنيا فتكون كالصعب النفور، وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقى فيها من شيء قبلته، فباكرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك، لتستقبل بجد رأيك ما قد كفاك تجربته، فتكون قد كفيت مؤنة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه، واستبان لك ما ربما أظلم علينا فيه، أي بني‏!‏ إني لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمارهم وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأنني لما قد انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضره، فاستخلصت من كل شيء نحيلته، وتوخيت لك جميلته، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت عنايتي بك واجبة علي، فجمعت لك ما إن فهمته أدبك، فاغتنم ذلك وأنت مقتبل بين النية واليقين، فعليك بتعليم كتاب الله وتأويله‏!‏ وشرائع الإسلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا تجاوز ذلك قبله إلى غيره، فإن أشفقت أن شبهة لمت اختلف فيه الناس من أهوائهم ورأيهم مثل الذي لبسهم، فتقصد في تعليم ذلك بلطف‏.‏

يا بني‏!‏ وقدم عنايتك في الأمر ليكون ذلك نظرا لديك، لا مماريا ولامفاخرا ولا طلبا لعرض عاجلتك، فإن الله يوفقك لرشدك، ويهديك لقصدك، فاقبل عهدي إليك، ووصيتي لك، واعلم يا بني‏!‏ إن أحب ما أنت آخذ به من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما افترض الله عليك، والأخذ بما الضى‏؟‏‏؟‏ عليك أولوك من آبائك والصالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدعوا أن ينظروا لأنفسهم كما أنت ناظر وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عما لم يكلفوا، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم ما علموا، فيكون طلبك ذلك بتعليم وتفهم وتدبر، لا بتوارد الشبهات وعلم الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بالهك عليك والرغبة إليه، واحذر كل شائبة أدخلت عليك شبهة، وأسلمتك إلى ضلالة، فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع، وتم رأيك فاجتمع، كان همك في ذلك هما واحدا، فانظر فيما فسرت ذلك، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من فراغ نظرك فاعلم أنك إنما تخبط خبط عشواء، وليس من طالب لدين من خبط ولا خلط، والإمساك عند ذلك أمثل، وإن أول ما أبدأك به في ذلك وآخره أني أحمد الله إلهي وإلهك إله الأولين والآخرين، رب من في السماوات ومن في الأرضين، بما هو أهله، وكما هو أهله، وكما يحب وينبغي له، وأسأله أن يصلي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يتم علينا نعمه لما وفقنا من مسألته والإجابة لنا، فإن بنعمته تتم الصالحات‏.‏

اعلم أي بني‏!‏ إن أحدا لم ينبيء عن الله عز وجل كما نبأ به محمد صلى الله عليه وسلم، فارض به رائد ‏(‏رائد‏:‏ الرائد‏:‏ الذي يرسل في طلب الكلأ‏.‏ أ ه صفحة 209‏.‏ المختار‏.‏ ب‏)‏، فإني لم آلك نصيحة ولم تبلغ في ذلك، وإني اجتهدت مبلغي في ذلك لعنايتي وطول تجربتي، وإن نظري لك كنظري لنفسي؛ اعلم أن الله واحد، أحد صمد، لا يضاده في ملكه أحد، ولا يزول ولم يزل، أول من قبل الأشياء بلا أولية، وآخر بلا نهاية، حكيم، عليم، قديم، لم يزل كذلك، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك في صغر خطره، و قلة مقدرته، وكثرة عجزه، وعظيم حاجتك إلى ربك، فاستعن بالهك في طلب حاجتك، وتقرب إليه بطاعته، وارغب إليه بقدرته، وارهب منه بروئيته، فإنه حكيم لم يأمرك إلا بحسن، ولم ينهك إلا عن قبيح، اجعل نفسك ميزانا بينك وبين غيرك؛ وأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، ولا تقل ما لا تعلم، بل أقل مما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك؛ اعلم يا بني أن الإعجاب ضد الصواب، وآفة الألباب، فاسع في كدحك؛ ولا تكن خازنا لغيرك، فإذا هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك؛ واعلم أن أمامك طريقا ذا مشقة بعيدة‏.‏ وأهوال شديدة، وأنك لا غنى بك عن حسن الارتياد، وقدر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك، فيكون ثقله وبالا عليك، وإذا وجدت من أهل الحاجة من يحمل لك زادك ويوافيك به حيث تحتاج إليه فاغتنمه، واغتنم ما أقرضت من استقرضك في حال غناك، واعلم أن أمامك عقبة كؤوداء مهبطها على جنة أو على نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، فليس بعد الموت مستعتب، ولا إلى الدنيا منصرف‏.‏

واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء وضمن الإجابة، وأمرك أن تسأله فيعطيك، وتطلب إليه فيرضيك، وهو رحيم لم يجعل بينك وبينه حجابا، ولم يلجأك إلى من تشفع به إليه، ولم يمنعك إن أسأت التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يؤنسك من رحمته، ولم يسد عليك باب التوبة، وجعل توبتك النزوع عن الذنب، وجعل سيئتك واحدة وجعل حسنتك عشرا، إذا ناديته أجابك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، وأنثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستعنته على أمورك، وسألته من خزائن رحمته التي لا يقدر على إعطائها غيره من زيادة الأعمار وصحة الأبدان وسعة الرزق وتمام النعمة، فألحح في المسألة، فبالدعاء تفتح أبواب الرحمة، ولا يقنطك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، فربما أخرت الإجابة لتطول مسألة السائل، فيعظم أجره، ويعطي سؤله، وربما ذخر ذلك له في الآخرة، فيعطى أجر تعبده، ولا يفعل بعبده إلا ماهو خير له في العاجلة والآجلة، ولكن لا يجد لطفه أحد، ولا يعرف دقائق تدبيره إلا المصطفون، ولتكن مسالتك لما يبقى ويدوم في صلاح دنياك وتسهيل أمرك وشمول عافيتك، فإنه قريب مجيب؛ اعلم أي بني انك خلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وأنك في منزل قلعة ودار بلغة وطريق الآخرة، وأنك طريدة الموت الذي لا ينجو منه هاربه، ولا يفوته طالبه، فاحذر أن يدركك وأنت على حال سيئة، وأعمال مردية فتقع في ندامة الأبد وحسرة لا تنفد، فتفقد دينك لنفسك، فدينك لحمك ودمك، ولا ينقذك غيره‏.‏

أي بني‏!‏ أكثر ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه، وتقضى بعد الموت إليه، واجعله نصب عينيك حتى يأتيك وقد أخذت له حذرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك، وأكثر ذكر الآخرة وكثرة نعيمها وحبورها وسرورها ودوامها وكثرة صنوف لذاتها وقلة آفاتها إذا سلمت، وفكر في ألوان عذابها وشدة غمومها وأصناف نكالها، إن أنت تيقنت فإن ذلك يزهدك في الدنيا ويرغبك في الآخرة، ويصغر عندك زينة الدنيا وغرورها وزهرتها فقد نبأك الله عنها وبين أمرها، وكشف عن مساويها، فإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهلها إليها وتكالبهم عليها ككلاب عاوية، وسباع ضارية، يهر‏؟‏‏؟‏ بعضهم إلى بعض؛ ويقهر عزيزها ذليلها، وكثيرها قليلها، قد أضلت أهلها عن قصد السبيل، وسلكت بهم طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منهج الصواب، فتاهوا في حيرتها، وغرقوا في فتنتها، وتخذوها ريا فلعبت بهم ولعبوا بها، ونسوا ما وراءها؛ فإياك يا بني أن تكون مثل من قد شابته بكثرة عيوبها‏!‏ أي بني‏!‏ إنك إن تزهد فيما قد زهدتك فيه من أمر الدنيا وتعرض نفسك عنها فهي أهل ذلك، فإن كنت غير قابل نصحي إياك منها فاعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، فإنك في سبيل من قد كان قبلك، فأجمل في الطلب، واعرف سبيل المكتسب، فإنه رب طلب قد جر إلى حرب، وليس كل طالب يصيب، ولا كل غائب يؤوب، وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك؛ إياك أن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا وقد جمعك الله به حراّ‏!‏ وما منفعة خير لا يدرك باليسير، ويسير لا ينال إلا بالعسير؛ وإياك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل‏؟‏‏؟‏ الهلكة‏!‏ وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل، فإنك مدرك قسمك، وآخذ سهمك، وإن اليسير من الله أعظم وأكرم وإن كان كل من الله - ولله المثل الأعلى‏!‏

واعلم أن لك في يسير مما تطلب فتنال من الملوك افتخارا، وبيع عرضك ودينك عليك عار، فاقتصد في أمرك تحمد معقبة عقلك، إنك لست بائعا شيئا من عرضك ودينك إلا بثمن، والمغبون من حرم نصيبه من الله، فخذ من الدنيا ما أتاك، وتول عما تولى عنك، فإن أنت لم تفعل فأجمل في الطلب؛ وإياك ومقاربة من يشينك‏!‏ وتباعد من السلطان، ولا تأمن خدع الشيطان، ومتى ما رأيت منكرا من أمرك فأصلحه بحسن نظرك، فإن لكل وصف صفة، ولكل قول حقيقة، ولكل أمر وجها ينال الأريب - أي العاقل - فيه رشده، ويهلك الأحمق بتعسفه فيه نفسه؛ يا بني‏!‏ كم قد رأيت من قيل له‏:‏ تحب أن تعطي الدنيا بما فيها مائة سنة بلا آفة ولا أدنى، لا ترى فيها سوءا ويكون آخر أمرك عذاب الأبد، فلا يتسع بها ولا يريدها، ورأيته قد أهلك دينه ونفسه باليسير من زينة الدنيا، وهذا من كيد الشيطان وحبائله، فاحذر مكيدته وغروره، يا بني‏!‏ أملك عليك لسانك، ولا تنطق فيما تخاف الضرر فيه، فإن الصمت خير من الكلام في غير منفعة، وتلافيك ما فرط من همتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك، واحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء‏.‏

واعلم أن حفظ ما في يديك خير من طلب ما في يد غيرك، وحسن التدبير مع الكفاف أكفى لك من الكثير في الإسراف، وحسن اليأس خير لك من الطلب إلى الناس، يا بني‏!‏ لا تحدث من غير ثقة فتكون كذابا، والكذب داء فجانبه وأهله، يا بني‏!‏ العفة مع الشدة خير من الغنى مع الفجور، من فكر أبصر، ومن كثر خطاؤه هجر، ورب مضيع ما يسره، وساع فيما يضره، من خير حظ المرء قرين صالح، فقارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن منهم، ولا يغلبن عليك سوء الظن، فإنه لن يدع بينك وبين خليلك ملجأ، قد يقال‏:‏ من الحزم سوء الظن، وبئس الطعام الحرام، وظلم الضعيف أفحش الظلم، الفاحشة تقصم القلب، إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا، وربما كان الداء دواء والدواء داء، وربما نصح غير الناصح وغش المنتصح، إياك والانكال على المنى‏!‏ فإنها بضائع النوكى ‏(‏النوكي‏:‏ النوك بالضم والفتح‏:‏ الحمق، وما أنوكه‏:‏ ما أحمقه‏.‏ أ ه 3/322 القاموس‏.‏ ب‏)‏، ذك قلبك بالأدب كما تذكي النار الحطب، ولا تكن كخاطب الليل وغثاء السيل، كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم، والعقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك، ومن الكرم لين الشيم، بادر الفرصة قبل أن تكون غصة، ومن الحزم العزم، ومن سبب الحرمان التواني، ومن الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد، لكل أمر عاقبة، فرب مشير بما يضر، لا خير في معين مهين، ولا في صديق ظنين‏.‏

‏(‏يتبع‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏

‏(‏تابع‏.‏‏.‏‏.‏ 1‏)‏‏:‏ -44215- عن علي أنه كتب إلى ابنه الحسن كتابا‏:‏ من الوالد الفان، المقر‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏

ولا تدع الطلب فيما يحل ويطيب فلا بد من بلغة، وسيأتيك ما قدر لك، التاجر مخاطر، من حلم ساد، ومن تفهم ازداد، ولقاء أهل الخير عمارة القلوب، ساهل ما ذل لك بقوة، وإياك أن تطمح بك مطية اللجاج‏!‏ وإن قارفت سيئة فعجل محوها بالتوبة، ولا تخن من ائتمنك وإن خانك، ولا تذع سره وإن أذاع سرك، خذ بالفضل، وأحسن البذل، وأحبب للناس الخير، فإن هذه من الأخلاق الرفيعة، وإنك قل ما تسلم ممن تسرعت إليه، وكثيرا ما يحمد من تفضلت عليه؛ اعلم أي بني أن من الكرم الوفاء بالذمم‏.‏ والدفع عن الحرم، والصدود آية المقت، وكثرة العلل آية البخل، وبعض الإمساك عن أخيك مع الإلف خير من البذل مع الحنف‏؟‏‏؟‏ ‏(‏الجنف‏:‏ الجنف محركة والجنوف بالضم‏:‏ الميل والجور‏.‏ أ ه 3/124 القاموس‏.‏ ب‏)‏، ومن الكرم صلة الرحم، والتجرم وجه القطيعة، احمل نفسك من أخيك عند جموحه على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند تجرمه على الاعتذار، حتى كأنك له عبد وكأنه ذو نعمة عليك، ولا تضع ذلك في غير موضعه، ولا تفعله بغير أهله، ولا تتخذ من عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك، ولا تعمل بالخديعة فإنها أخلاق اللئام، وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أم قبيحة، وساعده على كل حال، وزل معه حيث زال، ولا تطلبن منه المجازاة، فإنها من شيم الدناءة، وخذ على عدوك بالفضل، فإنه أحرى للظفر‏.‏

لا تصرم أخاك على ارتياب، ولا تقطعه دون استعتاب، ولن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك، ما أقبح القطيعة بعد الصلة، والجفاء بعد اللطف، والعداوة بعد المودة، والخيانة لمن ائتمنك، وخلف الظن لمن ارتجاك، والغرر بمن وثق بك‏!‏ وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية، ومن ظن بك خيرا فصدق ظنه، ولا تضيعن بر أخيك اتكالا على ما بينك وبينه، فإنه ليس بأخ من أضعت حقه، لا يكون أهلك أشقى الناس بك، ولا ترغبن فيمن زهد فيك، ولا تزهدن فيمن رغب إليك، إذا كان للخلط موضعا، لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته لا يكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان إليه، ولا على البخل أقوى منك على البذل، ولا على التقصير أقوى منك على الفضل، لا يكثرن عليك ظلم من ظلمك، فإنه يسعى في مضرته ونفعك، وليس جزاء من سرك أن تسوءه؛ واعلم أي بني‏!‏ أن الرزق رزقان‏:‏ رزق تطلبه، ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك، واعلم أن الدهر ذو صروف، فلا تكونن ممن يسبك لاعنة للدهر، ومحفلا عند الناس عذره، ما أقبح الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى، إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، فأنفق يسرك، ولا تكن خازنا لغيرك، فإن كنت جازعا مما تفلت من يديك فاجزع على ما يصل إليك، استدل على ما لم يكن بما قد كان، فإن الأمور أشباه يشبه بعضها بعضا، ولا تكفرن ذا نعمة، فإن كفر النعم من قلة الشكر ولؤم الخلق، وأقل العذر، ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة إلا إذا بلغت في الملامة، فإن العاقل يتعظ بالقليل، والبهائم لا تنفع إلا بالضرب‏.‏

واتعظ بغيرك ولا يكونن غيرك متعظا بك، واحتد بحذاء الصالحين، واقتد بآدابهم وسر بسيرتهم، واعرف الحق لمن عرفه لك رفيعا كان أو وضيعا، واطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين، من ترك القصد جار، نعم حظ المرء القناعة‏!‏ شر ما أشعر قلب المرء الحسد، وفي القنوط التفريط، وفي الخوف من العواقب البغي، الحسد لا يجلب مضرة وغيظا يوهن قلبك ويمرض جسمك، فاصرف عنك الحسد تغنم، وأنق صدرك من الغل تسلم، وارج الذي بيده خزائن الأرض والأقوات والسماوات، وسله طيب المكاسب تجده منك قريبا ولك مجيبا، الشح يجلب الملامة، والصاحب الصالح مناسب، والصديق من صدق غيبه، والهوى شريك العمى، ومن التوفيق سعة الرزق، نعم طارد الهموم اليقين، وفي الصدق النجاة، عاقبة الكذب شر عاقبة، رب بعيد أقرب من قريب ورب قريب أبعد من بعيد، والغريب من لم يكن له حبيب، من تعدى الحق ضاق مذهبه، من اقتصر على قدره كان أبقى له، ونعم الخلق‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وأوثق العرى التقوى، من أعتبك قد هوى، وقد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاكا، كم من مريب قد شقى به غيره ونجا هو من البلاء، جانيك من يجني عليك، وقد تعدى الصحاح مبارك الجرب، وليس كل عورة تظهر، ربما أخطأ البصير قصده، وأصاب الأعمى رشده، ليس كل من طلب وجد ولا كل من توقى نجا‏.‏

أخر الشيء فإنك إذا شئت عجلته، أحسن إن أحببت أن يحسن إليك، احتمل أخاك على كل ما فيه، ولا تكثر العتاب فإنه يورث الضغينة ويجر إلى المغضبة، وكثرته من سوء الأدب، استعتب من رجوت صلاحه، قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل، من كابد الحرية عطب، ومن لم يعرف زمانه حرب، ما أقرب النقمة من أهل البغي، وأخلق من عدر‏؟‏‏؟‏ أن لا يولى له، زلة العالم أقبح زلة، وعلة الكذاب أقبح علة، الفساد يبيد الكثير، والاقتصاد يثمر القليل، والقلة ذلة، وبر الوالدين أكرم الطبائع والخوف شر لحاف، والزلة مع العجلة، لا خير في لذة تعقب ندامة، والعاقل من وعظته التجربة، ورسولك ترجمان عقلك، وكتابك أحسن ناطق عنك، فتدبر أمرك، وتقصر شرك، الهدى يجلو العمى، وليس مع اختلاف ائتلاف، ومن حسن العمل افتقاد حال الجار، لن يهلك من اقتصد ولن يفتقر، يبين عن سر المرء دخيله، ورب باحث عن حتفه، وليس كل من ينظر بصير، رب هزل صار جدا، من ائتمن الزمان خانه، ومن تعظم عليه أهانه، ومن لجأ إليه أسلمه أي أخذله، ليس كل من رمى أصاب، وإذا تغير السلطان تغير الزمان، وخير أهلك من كفاك، المزاح يورث العداوة والحقد، أعذر من اجتهد وربما أكدى الحق، رأس الدين صحة اليقين، وتمام الإخلاص تجنب المعاصي، وخير القول الصدق، والسلامة مع الاستقامة‏.‏

سل عن الرفيق قبل الطريق؛ وعن الجار قبل الدار، كن من الدنيا على بلغة، احمل لمن دل عليك، واقبل عذر من اعتذر إليك، وارحم أخاك وإن عصاك، وصله وإن جفاك، وعود نفسك السماح، وتخير لها من كل أحسنه، لا تتكلم بما يرديك، ولا ما كثيره يزريك، أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك، أي بني‏!‏ إياك ومشاورة النساء‏!‏ إلا جربت بكمال، فإن رأيهن يجر إلى أفن ‏(‏أفن‏:‏ الأفن‏:‏ قلة العقل‏.‏ أ ه صفحة 14 المختار‏.‏ ب‏)‏ وعزمهن إلى وهن، اكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن، فإن شدة الحجاب خير لهن من الارتياب، وليس خروجهن بأشد عليك من دخول من لا تثق به عليهن، فإن استطعت أن لا يعرفهن غيرك فافعل، أقلل الغضب ولا تكثر العتاب في غير ذنب، فإن المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة، وأحسن لمماليكك الأدب، وإن أجرم أحد منهم جرما فأحسن العفو فإن العفو مع العز أشد من الضرب لمن كان له قلب، وخف القصاص، واجعل لكل امرئ منهم عملا تأخذه به، فإنه أحرى أن لا يتوكلوا، وأكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، فإنك بهم تصول، وبهم تطول، وهم العمدة عند الشدة، وأكرم كريمهم، وعد سقيمهم، وأشركهم في أمورهم، ويسر عن معسرهم واستعن بالله على أمرك كله، فإنه أكرم معين، أستودع الله دينك ودنياك - والسلام‏.‏

‏(‏وكيع، والعسكري في المواعظ‏)‏‏.‏ * تتمة خطب علي ومواعظه رضي الله عنه